الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يومًا، وتدعه لهم يومًا، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} وقال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت- على ما ذكر- خلقًا هائلًا، ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم.فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة: بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير: قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا}.وقال: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا}، وقال: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك- والله أعلم-.وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بن غنم بن مجلز، تكنى بأم غنم، وهي من بين عبيد بن المهل، أخي رُميل بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب بن عَمْرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم وامرأة أخرى يقال لها صدوف بن المحيا بن دهر بن المحيا، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له وادي المحيا، وهو المحيا الأكبر، جد المحيا الأصغر أبي صدوف.وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح، وأعظمه به كفرًا.وكانتا تحتالان أن تُعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرت به من مواشيهما.وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف، من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح، حتى رق المال.فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيّتت له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد، بطنها الذي هي منه.وكان صنتم زوجها من بني هليل، وكان ابن خالها، فقال لها: ردي عليّ ولدي فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد، فقال لهم صنتم: بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.فقال بنو مرداس: والله لتعطِنّه ولده طائعة أو كارهة.فلما رأت ذلك أعتطته إياهم.ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل، فدعت صدوف رجلًا من ثمود يقال له الحُبَاب لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جندع، رجلًا من أهل قُرْح، وكان قدار رجلًا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له صهياد، ولم يكن لأبيه سالف الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش سالف، وكان يدعى له وينسب إليه.فقالت: أعطيتك أي: بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عَمْرو، من أشراف رجال ثمود، وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه.فانطلق قدار بن سالف، وصدع بن مهرج، فاستنفرا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر.أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له، هويل بن مبلغ خال قدار بن سالف، أخو أمه لأبيها وأمها، كان عزيزًا فيأهل حجر، ودعير بن غنم بن داعر، وهو من بني خلاوة بن المهل.ودأب بن مهرج، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجهًا، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمرت فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها.انطلق سقبها حتى أتى جبلًا منُيفًا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعًا ولاذ بها، وإسم الجبل فيما يزعمون صنو، فأتاهم صالح، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم مصدع بن مهرج، فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.
|